فصل: تفسير الآية رقم (84):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (84):

قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين سبحانه وتعالى نفاقهم المقتضي لتقاعدهم عن الجهاد بأنفسهم وتنشيطهم لغيرهم، كان ذلك سببًا لأن يمضي صلى الله عليه وسلم لأمره سبحانه وتعالى من غير التفات إليهم وافقوا أو نافقوا، فقال سبحانه وتعالى بعد الأمر بالنفر ثبات وجميعًا، وبيان أن منهم المبطىء، مشيرًا إلى أن الأمر باق وإن بطّأ الكل: {فقاتل في سبيل الله} أي الذي له الأمر كله ولو كنت وحدك.
ولما كان كأنه قيل: فما أفعل فيمن أرسلت إليهم إن لم يخرجوا؟ قال- معلمًا بأنه قد جعله أشجع الناس وأعلمهم بالحروب وتدبيرها، وهو مع تأييده بذلك قد تكفل بنصرته ولم يكله إلى أحد-: {لا تكلف إلا نفسك} أي ليس عليك إثم أتباعك لو تخلفوا عنك، وقد أعاذهم الله سبحانه وتعالى من ذلك، ولا ضرر عليك في الدنيا أيضًا من تخليهم، فإن الله سبحانه وتعالى ناصرك وحده، وليس النصر إلا بيده سبحانه وتعالى، وما كان سبحانه وتعالى ليأمره بشيء إلا وهو كفوء له، فهو ملئ بمقاتلة الكفار كلهم وحده وإن كانوا أهل الأرض كلهم، ولقد عزم في غزوة بدر الموعد- التي قيل: إنها سبب نزول هذه الآية- على الخروج إلى الكفار ولو لم يخرج معه أحد؛ وقد اقتدى به صاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه في قتال أهل الردة فقال للصحابة رضي الله تعالى عنهم: والله لو لم أجد إلا هاتين- يعني ابنتيه: عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما- لقاتلتهم بهما.
ولما كان ذلك قد يفتر عن الدعاء قال: {وحرض المؤمنين} أي مرهم بالجهاد وانههم عن تركه وعن مواصلة كل من يثبطهم عنه وعظمهم واجتهد في أمرهم حتى يكونوا مستعدين للنفر متى ندبوا حتى كأنهم لشدة استعدادهم حاضرون في الصف دائمًا.
ثم استأنف الذكر لثمرة ذلك فقال: {عسى الله} أي الذي استجمع صفات الكمال {أن يكف} بما له من العظمة {بأس الذين كفروا} أي عن أن يمنعوك من إظهار الدين بقتالك وقتال من تحرضه، ولقد فعل سبحانه وتعالى ذلك، فصدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، حتى ظهر الدين، ولا يزال ظاهرًا حتى يكون آخر ذلك على يد عيسى عليه الصلاة والسلام.
ولما كان السامع ربما فهم أنه لا يتأتى كفهم إلا بذلك، قال ترغيبًا وترهيبًا واحتراسًا: {والله} أي الذي لا مثل له {أشد بأسًا} أي عذابًا وشدة من المقاتِلين والمقاتَلين {وأشد تنكيلًا} أي تعذيبًا بأعظم العذاب، ليكون ذلك مهلكًا للمعذب ومانعًا لغيره عن مثل فعله؛ قال الإمام أبو عبد الله القزاز: يقال: نكلته تنكيلًا- إذا عملت به عملًا يكون نكالًا لغيره، أي عبرة فيرجع عن المراد من أجله، وهو أن الناظر إليه والذي يبلغه ذلك يخاف أن يحل به مثله، أي فيكون له ذلك قيدًا عن الإقدام؛ والنكل- بالكسر: القيد. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم انه تعالى لما أمر بالجهاد ورغب فيه أشد الترغيب في الآيات المتقدمة، وذكر في المنافقين قلة رغبتهم في الجهاد، بل ذكر عنهم شدة سعيهم في تثبيط المسلمين عن الجهاد، عاد في هذه الآية إلى الأمر بالجهاد فقال: {فَقَاتِلْ في سَبِيلِ الله}. اهـ.

.قال أبو حيان:

ومناسبة هذه الآية هي: أنه لما ذكر في الآيات قبلها تثبيطهم عن القتال، واستطرد من ذلك إلى أنَّ الموت يدرك كل أحد ولو اعتصم بأعظم معتصم، فلا فائدة في الهرب من القتال، وأتبع ذلك بما أتبع من سوء خطاب المنافقين للرسول عليه السلام، وفعلهم معه من إظهار الطاعة بالقول وخلافها بالفعل، وبكتهم في عدم تأملهم ما جاء به الرسول من القرآن الذي فيه كتب عليهم القتال، عاد إلى أمر القتال.
وهكذا عادة كلام العرب تكون في شيء ثم تستطرد من ذلك إلى شيء آخر له به مناسبة وتعلق، ثم تعود إلى ذلك الأول. اهـ.

.قال الفخر:

الفاء في قوله: {فَقَاتِلْ} بماذا تتعلق؟ فيه وجوه:
الأول: أنها جواب لقوله: {وَمَن يقاتل في سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ} [النساء: 74] من طريق المعنى لأنه يدل على معنى إن أردت الفوز فقاتل.
الثاني: أن يكون متصلا بقوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون في سَبِيلِ الله} [النساء: 75] {فَقَاتِلْ في سَبِيلِ الله} [النساء: 84]
والثالث: أن يكون متصلا بمعنى ما ذكر من قصص المنافقين، والمعنى أن من أخلاق هؤلاء المنافقين كذا وكذا، فلا تعتد بهم ولا تلتفت إلى أفعالهم، بل قاتل. اهـ.
قال الفخر:
قال صاحب الكشاف: قرئ {لاَ تُكَلَّفُ} بالجزم على النهي.
و{لاَ نُكَلّفُ} بالنون وكسر اللام، أي لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها. اهـ.

.قال الألوسي:

وقرئ {لاَ تُكَلَّفُ} بالجزم على أن لا ناهية والفعل مجزوم بها أي لا تكلف أحدًا الخروج إلا نفسك، وقيل: هو مجزوم في جواب الأمر وهو بعيد، و{لا نكلف} بالنون على بناء الفاعل فنفسك مفعول ثان بتقدير مضاف، وليس في موقع المفعول الأول أي لا نكلفك إلا فعل نفسك لا أنالآنكلف أحدًا إلا نفسك، وقيل: لا مانع من ذلك على معنى لا نكلف أحدًا هذا التكليف إلا نفسك.
والمراد من هذا التكليف مقاتلته وحده. اهـ.

.قال الفخر:

دلت الآية على أنه لو لم يساعده على القتال غيره لم يجز له التخلف عن الجهاد ألبتة، والمعنى لا تؤاخذ إلا بفعلك دون فعل غيرك، فإذا أديت فعلك لا تكلف بفرض غيرك.
واعلم أن الجهاد في حق غير الرسول عليه السلام من فروض الكفايات، فما لم يغلب على الظن أنه يفيد لم يجب، بخلاف الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه على ثقة من النصر والظفر بدليل قوله تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] وبدليل قوله ههنا: {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ} و«عسى» من الله جزم، فلزمه الجهاد وإن كان وحده. اهـ.
قوله تعالى: {وَحَرّضِ المؤمنين}
قال الفخر:
المعنى أن الواجب على الرسول عليه الصلاة والسلام إنما هو الجهاد وتحريض الناس في الجهاد، فإن أتى بهذين الأمرين فقد خرج عن عهدة التكليف وليس عليه من كون غيره تاركا للجهاد شيء. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَحَرّضِ المؤمنين} أي حثهم على القتال ورغبهم فيه وعظهم لما أنهم آثمون بالتخلف لفرضه عليهم قبل هذا بسنين، وأصل التحريض إزالة الحرض وهو ما لا خير فيه ولا يعتد به، فالتفعيل للسلب والإزالة كقذيته، وجلدته ولم يذكر المحرض عليه لغاية ظهوره. اهـ.

.قال ابن كثير:

وقوله: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عنده كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وهو يسوي الصفوف: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض».
وقد وردت أحاديثُ كثيرة في الترغيب في ذلك، فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها» قالوا: يا رسول الله، أفلا نبشر الناسَ بذلك؟ فقال: «إن في الجنة مائةَ درجة، أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة. وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تُفَجَّر أنهار الجنة».
ورُوي من حديث معاذ وأبي الدرداء وعُبادة نحو ذلك.
وعن أبي سعيد الخدْري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا سعيد، من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيًا، وجبت له الجنة» قال: فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها عليَّ يا رسول الله. ففعل. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: «الجهاد في سبيل الله». رواه مسلم. اهـ.
قوله تعالى: {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ}

.قال الفخر:

عسى: حرف من حروف المقاربة وفيه ترج وطمع، وذلك على الله تعالى محال.
والجواب عنه أن «عسى» معناها الإطماع، وليس في الإطماع أنه شك أو يقين، وقال بعضهم: إطماع الكريم إيجاب. اهـ.
سؤال: إن قال قائل: نحن نرى الكفار في بأس وشدّة، وقلتم: إن عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد؟
قيل له: قد وُجد هذا الوعد ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام فمتى وُجد ولو لحظة مثلًا فقد صدق الوعد؛ فكفّ الله بأس المشركين ببدر الصغرى، وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} [الأحزاب: 25] وبالحُدَيْبِيَة أيضًا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة، ففطِن بهم المسلمون فخرجوا فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، وهو المراد بقوله تعالى: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} [الفتح: 24] على ما يأتي.
وقد ألقى الله في قلوب الأحزاب الرُّعْب وانصرفوا من غير قتل ولا قتال؛ كما قال تعالى: {وَكَفَى الله المؤمنين القتال}.
وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم، فهذا كله بأس قد كفه الله عن المؤمنين، مع أنه قد دخل من اليهود والنصارى العدد الكثير والجَمُّ الغفير تحت الجِزْية صاغرين وتركوا المحاربة داخِرين، فكف الله بأسهم عن المؤمنين والحمد لِله رب العالمين. اهـ.
وأجاب الثعلبى عن هذا بقوله:
قد قيل: إن المراد به الكفرة الذين كفّ بأسهم في بدر الصغرى، والحديبية بقوله: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} الآية، فإن كان ظاهرها العموم فالمراد منها الخصوص.
وقيل: أراد به المدة التي أمر الله فيها القتال لزوال الكفر بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} فعند ذلك يكف بأس الذين كفروا، وهو الوقت. حتى ينزل فيه (المهدي) فيكون حكمًا قسطًا ويظهر الإسلام على الدين كله.